يوم 4 أغسطس 2020.. تاريخ لن ينساه اللبنانيون. ففي هذا اليوم المشؤوم هز انفجار هائل العاصمة بيروت ودمر أجزاء كبرى منها، فتحولت إلى مدينة "منكوبة" تسودها الفوضى والدمار. انفجار "شلّع" قلوب الملايين. قتلى وجرحى في كل مكان، مفقودون، عائلات مشردة، بيوت مدمرة ومؤسسات تحاول النهوض مجدداً من تحت الركام. ومع قدوم فصل الشتاء باتت آلاف العائلات دون مأوى وتحت رحمة الأمطار والبرد، وسط مخاوف من قضاء الشتاء في العراء أو أن يتحولوا لنازحين لا ملجأ لهم إلا بيوت أقاربهم.
هذا الانفجار، الذي شبّهه البعض بقنبلة هيروشيما وأسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة أكثر من 6500 بجروح، أتى في وقت يشهد لبنان منذ عام، الانهيار الاقتصادي الأسوأ في تاريخه الحديث ويعيش أزمة سياسية ومعيشية خانقة، إضافة إلى أزمة الدولار.
وفي إحدى المواقف المؤسفة التي يعيشها اللبنانيون في موسم الشتاء، اصطدمت نورما التي كانت تهم للخروج من شقتها في بيروت فجأة بغيمة من الغبار أمامها ليتبين أنها ناتجة عن سقوط جزء من مبنى أثري مجاور عصف به انفجار المرفأ قبل أن تأتي عليه الأمطار الغزيرة.
كما قالت نورما منسخ، وهي في الخمسينات من عمرها: "ولدنا هنا، ونشأنا هنا، الحي كله بمثابة بيتنا، نعرف كل زاوية منه وها نحن نخسر مشاهد ولدنا ونشأنا معها. كان يجب تدعيم المبنى بشكل أفضل، هذا كله نتيجة إهمال الدولة، إهمال في كل شيء".
و"رميل 24" واحد من مباني بيروت الأثرية الكثيرة. ومع أنه مهجور منذ أكثر من 40 عاماً، كان الطابق الأرضي منه يضم أحد أشهر محلات بيع البوظة، متجر حنا متري، الذي كان مقصداً رئيسياً للسياح ولسكان بيروت، قبل أن ينهار سقفه بالكامل جراء انفجار المرفأ، ما اضطره إلى تغيير موقعه. وعلى غرار عدد من الأبنية الأخرى، لم يصمد "رميل 24" أمام بدء الأمطار، التي هطلت بغزارة طوال أسبوع في بيروت.
يشار إلى أن انفجار المرفأ المروع تسبب بأضرار في نحو 70 ألف وحدة سكنية، وأتى على تاريخ عريق حافظت عليه أبنية تراثية بجدرانها المزخرفة ونوافذها الملونة وقناطرها العالية قبل أن تتحول مجرد واجهات تخترقها فجوات ضخمة.
وبات 90 مبنى أثرياً مهدداً بالانهيار اليوم مع بدء موسم الأمطار، وفق ما قال وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال عباس مرتضى لوكالة فرانس برس. وكان المدير العام للآثار سركيس خوري قد قدّر بـ300 مليون دولار حاجة لبنان لترميم تراث بيروت.
"تراثنا وإرثنا"
من جهتها، قالت كارلا (52 عاماً)، التي نشأت أيضاً بالقرب من مبنى "رميل 24": "نخسر الكثير في لبنان، نعيش صدمة جديدة كل شهر"، مشددة: "هذا تراثنا وإرثنا. من المؤسف أن يذهب بهذه الطريقة".
إلى ذلك شرحت المهندسة ياسمين معكرون، المتطوعة في جهود الترميم التي تقوم بها جمعية تشجيع حماية المواقع الطبيعية والأبنية القديمة في لبنان، أن مياه الأمطار ضاعفت الثقوب في سقف المبنى ما أدى إلى "انهياره جزئياً"، موضحة أنه كان من الممكن إنقاذه لو لم يتأخر صاحب الأرض في السماح لعمال الترميم بالوصول إليه، مشيرة إلى أنه كان بإمكانهم تدعيم المبنى خلال 10 أيام قبل بدء هطول الأمطار. وأضافت: "كان بإمكاننا أن نبدأ بالمرحلة الأولى وأن ننقذه ولو جزئياً".
ويعتمد لبنان الذي يشهد انهياراً اقتصادياً متسارعاً فاقمه انفجار المرفأ، على المساعدات الخارجية لإعادة إعمار وترميم الأحياء المتضررة. إلا أن المجتمع الدولي، الذي تعهد مباشرة بعد الانفجار بتقديم أكثر من 250 مليون يورو، أصر على ألا تمر المساعدات بمؤسسات الدولة المتهمة بالفساد بل برعاية الأمم المتحدة وبشكل مباشر للشعب اللبناني.
وذكر مرتضى أن "المنظمات الدولية لا تهتم بالشكل المطلوب" في مسألة المباني الأثرية، لافتاً إلى أن "هناك عجزا في الإمكانيات لدى الوزارة" وخصوصاً من ناحية الطاقم التقني والهندسي.
انفجار غيّر ملامح الشوارع
في حي الجميزة المجاور، تمر شاحنات مليئة بألواح الألمينيوم في شارع غيّر الانفجار ملامحه. وبات عدد عمال البناء والترميم يفوق عدد المارة الذين يسرعون الخطى أثناء مرورهم إلى جانب الأبنية خوفاً من انهيار جدار هنا أو سقف هناك.
كما ينهمك العمال في إزالة أنقاض مبنى أثري ظن فريق إغاثي من تشيلي في سبتمبر أنه رصد تحت أنقاضه نبضات قلب قبل أن يخيب أمله لاحقاً.
وعلى بعد بضعة كيلومترات، تبدو منطقة الكرنتينا المحاذية للمرفأ الأكثر عرضة للخطر. وقد تسببت الأمطار الأربعاء بانهيار مبنى شكّل الضحية الأولى لموسم العواصف. وفيما كان العمال ومتطوعو إحدى منظمات الإغاثة يرفعون حجارته المتساقطة على الشارع، انهمك آخرون في تدعيم جدار مبنى آخر على الجهة المقابلة.
إلى ذلك سورت أشرطة حمراء وصفراء اللون أبنية كثيرة، وإلى جانبها وُضعت لافتات تحذر المواطنين من الدخول أو الاقتراب منها.
وتعد الكرنتينا من أفقر أحياء بيروت، وقد اتخذ عمال سوريون وأجانب كثر منها منزلاً لهم، وزاد الانفجار من معاناة قاطنيها نظراً لموقعها المحاذي للمرفأ.
https://ift.tt/36djtpb
تعليقات
إرسال تعليق